سورة الرعد - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}.
التفسير:
هذه السورة مكية- وقيل إنها مدنية وسورة يوسف التي قبلها مكية باتفاق، ومع هذا فقد كان بدء هذه السورة متلاقيا مع ختام السورة التي قبلها، وهذا يرجح القول القائل بأنها مكية.
فقد ختمت سورة يوسف بالآية الكريمة: {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
والآية- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- تنفى عن القرآن الكريم أن بكون قد شابه شيء من الكذب أو الشك، إذ كان مصدّقا لما تقدمه من الكتب السماوية، شاهدا لها بأنها من عند اللّه.
وقوله تعالى: {المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} هو توكيد لنفى الشّبه والرّيب عن القرآن الكريم، وتقرير بأنه الحقّ من رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
والإشارة {بتلك} مشار بها إلى {المر}.
تلك الحروف المقطعة.
أي أنه من تلك الحروف وأمثالها من حروف الهجاء، قد نظمت آيات القرآن الكريم، فكان منها هذا النظم البديع، وهذا البيان المبين، الذي أفخم البلغاء، وأعجز العالمين.
وفى الإشارة إلى آيات الكتاب، بعد ذكرها في قوله تعالى: {المر} في هذه الإشارة تنويه بهذا الكتاب، وعرض له في معرض التحدي، بهذه الأحرف التي نظمت منها كلماته، ونضّدت آياته.
وفى قوله تعالى: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} قصر للحق المطلق على آيات هذا الكتاب، فآيات هذا الكتاب هى الحق، ولا حقّ وراءها، لأنها كلمات اللّه.. وكلام اللّه صفة من صفاته.
وقد جاء القصر هنا بتعريف الخبر {الحق}.
ولو جاء منكرا- كما هو مألوف لما وقع القصر-: فإنه شتان بين قوله تعالى: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} وبين أن يقال: {والذي أنزل إليك من ربك حق}.
قوله تعالى: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}.
أي ومع هذا الحق المبين، وتلك الآيات المشرقة الوضيئة، فإن أكثر الناس لا يهتدون بها إلى الحق، ولا يتهدّون بها إلى التعرف على اللّه.
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
وإذا لم يكن للناس عقول تعقل هذه الآيات التي حملها رسول اللّه إليهم في هذا الكتاب المبين.. أفلا كانت لهم أعين تنظر في هذا الوجود الذي أوجده اللّه سبحانه وتعالى من عدم، وأقامه على هذا النظام البديع؟
وإذا لم يكن لهم نظر ينظرون به في هذا الملكوت، أفليست لهم آذان يسمعون بها، هذا النداء الإلهى الذي يناديهم به الحق جل وعلا، ليستيقظوا من نومهم، ولينتبهوا من غفلتهم؟
ألا من كانت له أذنان فليسمع!! وألا من كانت له عينان فلينظر!! وألا من كان له قلب فليخشع!- {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} أي ترونها مرفوعة هكذا بغير عمد، فقوله تعالى: {تَرَوْنَها} إما أن يكون صفة لعمد، ويكون المعنى:
أن اللّه سبحانه قد رفع السموات بغير عمد مرئية لنا، وإما أن يكون حالا من السموات.
{ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} أي بسط سلطانه على هذا الوجود.
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي أخضعهما لسلطانه، وأجراهما حسب أمره وتقديره.
{كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي يدور في فلك محدود، في زمن محدود.
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي يقدر لكل شيء قدره، كما يقول سبحانه: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [3: الطلاق]- {يُفَصِّلُ الْآياتِ} يبينها ويوضحها، ويأتى بها آية آية. ولم يأت بها جملة واحدة، وذلك لتنكشف للناس، ولتتضح لهم معالم الحق منها.
{لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أي لعلكم ترون في هذا الوجود، وفى الآيات المفصلة المبثوثة فيه، ما يدعوكم إلى الإيمان باللّه، فإذا آمنتم باللّه آمنتم بلقائه، وعملتم لهذا اللقاء حسابه، وأيقنتم أنكم مجزيون على ما تعملون من خير أو شر.
وفى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} بدلا من قوله {تؤمنون} إشارة إلى أن هذا الإيمان الذي يجىء عن طريق النظر والتأمل في آيات اللّه الكلامية أو الكونية أو هما معا- هذا الإيمان، هو الإيمان الكامل، الذي يصل إلى مرتبة اليقين.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
ومن مظاهر قدرة اللّه، تلك الآيات الكونية المفصلة، فهو سبحانه: {الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} أي بسطها وذللها.
{وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ} أي جبالا راسية، ثابتة، مستقرة، كما ترسو السفن على المرافيء الآمنة.
{وَأَنْهاراً} أي وأجرى في هذه الأرض التي بسطها أنهارا.
{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي وجعل من كل ثمرة زوجين اثنين، ذكرا وأنثى.. فالثمرة- أىّ ثمرة- لا تكون إلا بالتقاء الذكر والأنثى، على أية صورة من صورة الالتقاء، سواء في ذلك عالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الإنسان.. فكل مولود هو ثمرة هذا اللقاء، كل ثمرة هى المولود الذي تولّد من الذكر والأنثى!- {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} أي يلبس الليل النهار، ويجعله غشاء له، يجلّله، ويغطّيه.
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
ففى كل هذا، آيات ودلائل، على وجود الخالق، وعلى قدرته، وعلمه.. ولكن هذه الآيات لا تنكشف إلا لمن وجّه إليها بصره، وأعمل فيها فكره.. أما من أعرض عنها، وأغلق عقله وقلبه دونها، فإنه لا يرى من هذه الآيات إلا عوالم جامدة صماء، لا تنطق بشىء، ولا تحدّث عن شى ء!
قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
أي في هذه الأرض، وفى أية رقعة محدودة منها، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ} أي يجاور بعضها بعضا، ولكنها تختلف وجوها، وتتباين صورا وأشكالا.. فبعضها جديب، وبعضها خصيب، وقطع منها مياه، وقطع أخرى يابسة، وجوانب منها عشب وزروع، وجوانب أخرى حدائق وبساتين.
{وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ} أي من قطع الأرض، جنات من أعناب.
{وَزَرْعٌ} أي ومن قطع الأرض كذلك، زرع، من حبوب وغيرها.
{وَنَخِيلٌ} أي ومن هذه القطع أيضا: نخيل.
{صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} أي هذه النخيل بعضها {صنوان} أي كل نخلتين يخرجان من أصل واحد، أشبه بالتوائم في عالم الإنسان.. {وَغَيْرُ صِنْوانٍ} أي كل نخلة قائمة بذاتها.. {يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ} أي كل هذه الأنواع من النخيل يسقى بماء واحد، هو هذا الماء الذي تروى منه الكائنات الحيّة، من نبات وإنسان وحيوان.. ومع هذا فقد اختلفت ألوان ثمارها، وتعددت طعومها، ومذاقاتها، فكان بعضها أفضل من بعض، في طعامه ومذاقه: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}.
{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن في هذه الآيات المبثوثة في كل مكان لآيات ودلائل تشهد بقدرة الخالق، وتحدث عن علمه وحكمته، ولكن ذلك لا يقع إلا لمن كان لهم عقول، تفرق بين المحسوسات، إذ كانت تلك الآيات من الظهور والبيان، بحيث لا تخفى على أي إنسان له مسكة من عقل.. فكل إنسان احتفظ بإنسانيته قادر على أن يوجّه عقله إلى تلك الآيات، وينتفع بها في التعرف على خالقه.
ولا بد من وقفة هنا، مع أسلوب هذا العرض المعجز لآيات اللّه.
فقد جاء العرض على أسلوب من التربية الحكيمة العالية، التي تلتقى مع العقل في جميع مستوياته، وعلى مختلف أنماط تفكيره.
فقد بدأ العرض بالسماوات، مجملة من غير تفصيل.. هكذا.. {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} وفى السموات، وفى هذا الملكوت الذي يقصر الطرف عنه، ويضيق الخيال عن تصوّره، منطلق لجميع العقول، ومسبح لكل المدركات.
وهيهات أن يكون إنسان، لم يرفع بصره إلى هذا الملكوت، ولم يسرح بخياله مع شموسه وأقماره وكواكبه، ونجومه! ثم يمسك القرآن- بعد هذا العرض العام للعالم العلوي- بظاهرتين بارزتين من مظاهر هذا العالم، وهما الشمس، والقمر، ففيهما مجال لنظر الناظرين، وتدبر المتدبرين.. ذلك أنه إذا غفل الإنسان الغافل الجهول، عن الوقوف على ما في السموات من آيات بيّنات، تحدّث عن قدرة القدير، وحكمة الحكيم، وعلم العليم- فإنه لن يستطيع- ولو حاول- أن يغمض عينيه عن الشمس والقمر، اللذين يملآن عليه وجوده.. وفى هذا يقول سبحانه: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} ثم يتحرك العرض إلى مستوى دون هذا المستوي.. فينتقل العرض من السماء إلى الأرض. وذلك لأنه إذا كان في الناس- وكثير ما هم- من لا يرى في ملكوت السموات، وما فيهن، من شمس وقمر، ونجوم، فلينظر إلى هذه الأرض التي يدبّ عليها، فيقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وهنا على هذه الأرض معارض مختلفة، تتفاوت فيها أنظار الناظرين.
فبعض الأنظار تقف على حدود النظرة الملقاة على هذه الأرض، فلا ترى إلا آفاقا فسيحة ممتدة تتحرك عليها أشياء، أشبه بالأطياف، لا تتبيّن العين منها شيئا.. على حين تنفذ بعض الأنظار إلى مدارج النّمال وأفاحيص القطا.
فترى فيها من عظمة القدرة، وجلال العلم، وروعة الحكمة، ما يملأ القلب خشوعا، وولاء، وحمدا للخلّاق العظيم.. رب العالمين.
فهذه الأرض المبسوطة على امتداد البصر.. تقف عندها بعض الأنظار ولا تتجاوزها.. وهذه الجبال الراسية عليها.. هى أبرز ما على هذه الأرض.
تعلق بها الأنظار، وتمسك بها.
ثم هذه الثمار.. التي هى معاش الإنسان.. إن لم يلتفت إليها ببصره، ألجأته الحاجة إلى أن يسعى إليها بقدمه، ويقلّب وجوه الأرض باحثا عنها بيده! وهذا الليل الذي يغشى النهار ويلبسه، ويحيل بياضه سوادا، ونوره ظلاما- هذا الليل يشدّ الأبصار شدّا إليه، لتتلمّس طريقها فيه، وترصد المخاوف التي تطلع عليها منه.
وهكذا، إذا استطاع الإنسان أن يفلت من النظر إلى واحدة من تلك الموجودات، لم يستطع أن يفلت من أخرى.. فإن لم يجىء إليها اختيارا أجاءته إليها اضطرارا.
ثم لا يقف الأمر عند هذا.
فهناك معارض بين يدى الإنسان، وتحت قدميه.
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ففى هذا معارض متعددة.. يعيش فيها الإنسان بكيانه كلّه، ويلقاها بحواسّه جميعا.. البصر، والشمّ، والذوق، واللمس.. شأنه في هذا شأن الحيوان.
فإذا لم يكن وراء هذه الحواس عقلا يدرك، فقد خرج الإنسان من عالم البشر إلى عالم الحيوان، ولم يكن أهلا للخطاب، والتكليف! تلك هى دعوة الإسلام للعقل، كى يتعرف على اللّه، ويسلك سبيله إليه، بالنظر في ملكوته، والتدبّر فيما أبدع وصوّر.. وإن العقل- على أي مستوى- لن يخطئه الطريق إلى اللّه، إذا هو وقف بين يدى تلك الآيات، متجردا من الأهواء الفاسدة، والموروثات الضالة، وأعطى لنفسه الحقّ في الاستقلال بعقله، والإصغاء إلى صوت ضميره.


{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)}.
التفسير:
من أبرز الأمور التي ضلّت عنها أبصار المشركين، وزاغت عنها عقولهم، ولم يمسكوا بخيط من خيوطها، وهم يدورون بأبصارهم في هذا الوجود- أمر البعث، الذي لم يتصوروه، ولم يجدوا له مساغا في عقولهم، فأنكروه أشدّ الإنكار، ورأوا أنه مما يستحيل وقوعه.. إذ كيف يبعث الإنسان بعد أن يموت، ويتحول إلى تراب في هذا التراب؟ تلك هى مضلّتهم، ومثار الوسوسة والبلبلة التي تضطرب في عقولهم، من أمر البعث.. فلو أنّهم سلّموا بالبعث، لنازع هذا التسليم، بل وانتزعه من عقولهم، هذا الفهم السقيم لقدرة اللّه، التي يبدو لأنظارهم الكليلة منها، أنها أعجز من أن تعيد الحياة في هذا التراب الهامد، وتبعث الموتى من قبورهم على الحال التي كانوا عليها، بعد أن أبلاهم البلى، وأكلهم التراب! ولهذا كان ذلك منهم مثارا للعجب والدّهش، من ذوى العقول، وأصحاب النظر والفهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى لنبيّه الكريم:
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
أي إن ترد- أن تعجب وتدهش وإن أحببت أن تسمع من القول ما يثير العجب والدهش، فاستمع لهذا القول الذي يقوله هؤلاء المشركون: {أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟}.
وقد جاء هذا القول منهم في صورة هذا الاستفهام الإنكارى، للإشارة إلى أنه كان سؤالا مردّدا بينهم، يلقى به بعضهم إلى بعض، في تساؤل منكر، وفى استفهام خبيث: {أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟} ولا يجدون جوابا لهذا إلا زرّ العيون، أو زمّ الشّفاه، أو ليّ الألسنة.. تحدّث بما في قلوب القوم من سخرية واستهزاء! {أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ، أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
وهذا هو الردّ المفحم على هذه السخرية، وذلك الاستهزاء.
إنهم كفرة باللّه.. وليس للكافرين عند اللّه إلا النّار، يجرّون إليها كما تجرّ الحمر المستنفرة، قد أخذ صائدها بمقودها.. {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [48: القمر].
وفى تكرار الإشارة إليهم.. {أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ.. وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ.. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} في هذا التكرار، فضح لهم على رءوس الأشهاد، وشدّ للوثاق الممسك بهم من أعناقهم، حتى لا يفلتوا وحتّى لكأن كل إشارة من تلك الإشارات الثلاث، طوق من حديد، يطوّقون به.. وإن ذلك لسمة من السّمات الدّالة عليهم بين أهل المحشر، فليس ثمّة شك في أمرهم، أو في التعرف على ذواتهم، وقد وسموا بتلك السمات الفاضحة.
وفى الإشارة إليهم بأن الأغلال في أعناقهم، وبأنهم أصحاب النار، مع أنهم لم يبعثوا بعد، ولم يساقوا إلى جهنم بعد- حكم قاطع من اللّه عليهم بهذا، ولكنه مؤجل التنفيذ إلى يوم البعث..!
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ.. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ}.
المثلات: جمع مثلة، وهى الحدث الذي يقع فيكون مثلا مضروبا، في شناعته، وسوء وقعه، حيث يستحضره الناس عند كل أمر، تبدو فيه ملامح لهذا الحدث، فيكون ذكره مغنيا عن كل وصف.
والواو في قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} للاستئناف، بخبر جديد من أخبار هؤلاء المكذبين بيوم البعث.
وفى قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} إشارة إلى أنهم لم يقفوا عند حدّ الكفر باللّه، وإنكار يوم البعث، بل جاوزوا هذا إلى التحدّى، إمعانا في الكفر، ومبالغة في الإنكار، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم:
{وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [32: الأنفال].. وهذا من غباوتهم وحمقهم وسفههم.. ولو أنهم كانوا على شيء من العقل والإدراك، لكان لهم في باب الأمانىّ الطيبة متسع، ولما رموا بأنفسهم في هذا الوجه المهلك، الذي إن جاء على غير ما قدّروا، كان لهم فيه البلاء المبين، والعذاب الأليم.. وما لهم لو قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه، واشرح صدورنا له؟.. فإن كان حقّا أخذوا بحظهم منه، وعافاهم اللّه من البلاء.. وإن كان غير حقّ لم يخسروا شيئا؟ ولكنه الضلال الذي يستحوذ على أهله، فيدفع بهم إلى كل مهلكة، وما لهم لو أخذوا بقول الرجل المؤمن من آل فرعون: {وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [28: غافر]- وفى قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} الجملة هنا حالية، وهى فاضحة لغباوة هؤلاء المشركين، وما استولى عليهم من ضلال وسفه.
ذلك أنهم يستعجلون العذاب، وقد وقع هذا العذاب فعلا بكثير من الأمم التي سبقتهم، والتي كانت على مثل هذا الضلال الذي هم فيه.. فلو أنهم كانوا على شيء من العقل والإدراك لكان لهم في المثلات التي حلّت بالأمم الماضية عبرة زاجرة، وعظة بالغة.. ولكن أنّى للعمى أن يبصروا؟ وأنّى للسفهاء أن يرشدوا؟
وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ} عرض لسعة رحمة اللّه، ومغفرته لعباده.. فهو يمهلهم، ويستأنى بهم، ويدعوهم إليه، ويفتح لهم باب التوبة والقبول، فإذا استجابوا له، ورجعوا إليه، قبلهم، وتجاوز عن سيئاتهم، وعدل بهم عن طريق الضلال إلى الهدى، وعن النار وأهوالها، إلى الجنة ونعيمها.. فهذا من رحمة اللّه بعباده، ولو شاء لعجّل لهم العذاب، ولأخذهم بما كسبوا: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} [45: فاطر].
وإذا كانت تلك هى رحمة اللّه، وذلك هو لطفه بعباده، فإن مع هذه الرحمة وذلك اللطف بالذين يرجون رحمته، عقاب راصد، عذاب شديد للذين يحاربون اللّه، ويحادّون رسله، وينأون بأنفسهم عن مواقع رحمته ومغفرته.
وذلك هو حكم اللّه في عباده.. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [26- 27 يونس] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} ومن منكرات هؤلاء الكافرين، أنهم يغمضون أعينهم ويصمّون آذانهم عن آيات اللّه وكلماته، فلا يرون فيها شواهد صدقها، وصدق الرسول الذي جاءهم بها، بل يتصايحون بهذا القول المنكر: {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟}.
والآية التي يريدونها، هى آية مادية من تلك الآيات التي كانوا يقترحونها على النبي، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ} وقد تلقى الرسول من ربه هذا الرد المفحم لهم.. {قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا} [90- 93: الإسراء].
فهذه الآية التي يقترحونها هنا هى واحدة من تلك الآيات، وهى قولة من أقوالهم التي كانوا يردّدونها فيما بينهم.. وقد ردّ اللّه عليهم بقوله: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ} وفى هذا التفات للنبىّ الكريم، وخطاب كريم له من ربّه، يواسيه، ويخفف ما به من ضيق، لهذا العنت الذي يلقاه من قومه.
{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} هو الرسول الذي يرسله اللّه إليهم، ليدعوهم إليه، ويسلك بهم مسالك الخير والهدى.. فتلك هى وظيفة الرسول في قومه كما يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ} [119: البقرة] وفى تقديم قوله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ} على قوله سبحانه: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} تهديد ووعيد لهؤلاء المعاندين، الذين لجّ بهم العناد، واستبدّ بهم الضلال، فركبوا رءوسهم، ولم يعد ثمّة وجه لهم إلا أن ترفع في وجوههم راية الإنذار، وأن يساق إليهم ريح من لفح جهنم!


{اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15)}.
التفسير:
تعود الآيات مرة أخرى إلى استعراض قدرة اللّه، بعد هذه الوقفة الفاضحة للمشركين، ولمقولاتهم المنكرة، التي يستقبلون بها آيات اللّه، ويلقون بها رسول اللّه.
وفى هذا الاستعراض تنكشف مظاهر كثيرة لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وتمكّن سلطانه في هذا الوجود، وإحاطة علمه بكل شيء فيه.
{اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} تغيض الأرحام: أي تضع ما فيها من حمل.. يقال غاض ماء البئر، أي ذهب وجفّ.
فهذا مظهر من مظاهر قدرة اللّه، وسعة علمه.. فهو سبحانه يعلم ما تحمل كلّ أنثى، وما تضع من مواليد وما يتخلّق في الأرحام من أجنّة.
وفى التعبير عن وضع الحمل بالغيض، إشارة إلى أن الرحم حين يشتمل على الجنين، إنما يحمل في كيانه حياة، بها تزهو الحياة وتعمر الدنيا، كالماء الذي به تحيا الأرض، وتزدهر وتثمر.. فإذا سكن الجنين إلى الرحم، زاد الرحم ونما، وامتلأ، وإذا ولد الجنين، غاض الرحم، وانكمش.
وقدّم غيض الأرحام على زيادتها، لأن ملاحظة الغيض للرحم أظهر للعين، حيث يبدو في تمام الحمل على صورة واضحة، ثم إذا وضع الجنين تبدل الحال.
وفى قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} إشارة إلى أن هذا العلم الإلهى، علم قائم على حكمة، وعلى تقدير وتدبير، وليس علما جزافا، فهو مع إحاطته بكل شىء، ضابط لكل شىء، ومقدّر لكل أمر قدّره.. وهذا هو الفرق بين علم اللّه، وعلم العالمين، فإذا كان في العالمين من يعلم ما في الرحم.
فإنه لا يعلم ما في الأرحام جميعها في هذه الدنيا كلها، ولو احتشد لذلك العلماء، وتوفروا له بكل ما وضع العلم في أيديهم من وسائل.. ولو فرض أنهم علموا ما في الأرحام الآدميين جميعا- وهذا هو المحال- فأنّى لهم أن يعلموا ما في عالم الحيوان؟. {اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ}.
وفى إحاطة علم اللّه تعالى بالحمل الذي تحمله كل أنثى إشارة إلى نفوذ علم اللّه إلى خفايا الأمور، وأنه سبحانه يتولى هذه الأجنّة، إيجادا، وحفظا، داخل الأرحام وخارجها.
فعلم اللّه سبحانه وتعالى علم شامل، كامل، لأنه علم الخالق، المبدع، المصور.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد هذا.
{عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ}.
فذلك هو علم اللّه سبحانه، علم شامل كامل.. يعلم ما بطن وما ظهر، وما كان غائبا عن حواسنا، وما كان مشهودا لها.. فهو سبحانه {الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ} الكبير الذي وسع كرسيّه السموات والأرض، {المتعال} الذي علا بسلطانه على كل ذى سلطان، وبعلمه على كل ذى علم.
{سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ}.
فاللّه سبحانه، في كبريائه، وفى علوّه، محيط بكل صغيرة وكبيرة في الوجود.
يتساوى لديه في ذلك بعيد الأمور وقريبها، خفيها وظاهرها، إذ لا قرب ولا بعد عند من احتوى الوجود كله، ولا خفاء ولا ظهور لدى من ملك الأمر جميعه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ.. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [3: الحديد].
فمن أسرّ القول كمن جهر به.. اللّه يعلم سرّه، علمه لجهره: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [13- 14: الملك].
ومن تدثّر بالليل واستتر به عن العيون، كمن هو سارب: أي متحرك، بالنهار.. اللّه يراه في ظلمة الليل، كما يراه في ضوء النهار.. {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
{لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ..}.
أي إن لهذا الإنسان الذي يسرّ القول ويخافت به، أو يظهره ويجهر به، أو يحتجب عن الأنظار في ظلمة الليل أو يتحرك بين الناس في وضح النهار- هذا الإنسان موكّل به من قبل اللّه، جند يحفظونه، ويحرسونه، ويرصدون كلّ نفس يتنفّسه، وكلّ خاطر يخطر له، أو طرفة عين يطرفها، أو خفقة قلب يخفقها.. إنه حيث كان، وعلى أي حال كان، هو تحت هذه المراقبة التي لا تغفل، وبين هذه الحراسة التي لا تنام.. فأنّى له أن يخلص إلى نفسه، أو يخلو إلى وجوده، دون أن ترقبه هذه العيون الراصدة المتعقبة له؟
وفى قوله تعالى {مُعَقِّباتٌ} إشارة إلى أن هؤلاء الجند، يرون الإنسان من حيث لا يراهم، وأنهم أشبه بمن يتبع الإنسان من وراء عقبه، دون أن يراه أو يحسّ به، وهم- مع هذا- بين يدى الإنسان ومن خلفه.
وقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
أمر اللّه هنا، معناه تقديره، وحكمه، كما يقول سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [54: الأعراف] والمعنى: أنهم يحفظونه بما أمروا به من تقدير اللّه، وحكمه، وقضائه في عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} [2: النحل].. وقوله سبحانه: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا} [52: الشورى] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} في هذه الآية الكريمة أمور:
ففى قوله تعالى في أول الآية: {لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ما يشعر بأن الإنسان واقع تحت قوى خفية مسلطة عليه من اللّه، وأنه مقهور مغلوب على أمره بحكم هذه القوى الخفية المتعقبة له.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} ما يدفع هذا الشعور، الذي يقع في نفس الإنسان، من تعقب هذه القوى الخفية له.. فالإنسان ذو إرادة عاملة، يجدها دائما معه، ولا يجد لهذه القوى الخفيّة أثرا ماديا يحول بينه وبين ما يريد.. فهذه القوى إنما هى أشبه بالآلات المصورة، أو المسجّلة.. تصور ما يقع، وتسجّل ما يحدث، دون أن تتدخل في مجريات الوقائع أو الأحداث.. فالإنسان هو الذي يجريها كما يشاء، ويحدثها كما يريد!.
ومعنى هذا، أن الناس عموما هم الذين يكتبون أقدارهم، ويشكلون وجودهم، ويختارون الطريق الذي يسيرون فيه!.
وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} هو إطلاق لإرادة الإنسان، وأن اللّه سبحانه وتعالى منح الإنسان حرّية الحركة والعمل حيث يشاء، وكما يريد، حسب تفكيره وتقديره، وأن ما يفعله يمضيه اللّه سبحانه وتعالى له: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ}.
فالناس يبذرون الحب.. واللّه سبحانه وتعالى يعطيهم ثمر ما بذروا.. إن حلوا، وإن مرّا.
وفى تعليق تغيير أحوال الناس بتغيّر ما بأنفسهم، إشارة إلى أن النفس الإنسانية هى جهاز التفكير، والتقدير، ومركز الإرادة والتوجيه، وأنها هى السلطان الآمر للإنسان، والموجّه لكل أعماله وأقواله، فإذا غيّرت النفس اتجاه مسيرها، تغيّر تبعا لذلك سير الإنسان في الحياة.
وفى إضافة التغيير إلى اللّه سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن إرادة اللّه سبحانه وتعالى هى التي أجرت هذا التغيير، الذي أحدثه الإنسان، كما أنها هى التي حركت إرادة الإنسان نحو هذا التغيير.
ومعنى هذا، أن إرادة اللّه سبحانه وتعالى، إرادة شاملة، تدخل في محيطها كل إرادة، فلا إرادة لمريد، إلا تبع لهذه الإرادة.. وأن إرادة الإنسان إرادة متحركة عاملة، في محيط إرادة اللّه العامة الشاملة.. ولكنها لا تخرج في تحركها وعملها عن إرادة اللّه..! وفى هذا يقول اللّه سبحانه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [4: الروم] ويقول سبحانه: {وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} [29: التكوير].
قوله تعالى: {وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ} هو تقرير لشمول الإرادة الإلهية وعمومها، وأنها إرادة نافذة ماضية، وأن إرادة الناس لا تتحدّى إرادة اللّه، ولا تحول بينها وبين أن تمضى ما قضت به، وليس للنّاس فيما يقضى به اللّه ويريده من ولىّ ينصرهم، ويدفع ما يريد اللّه بهم من سوء.
هذا، مع أن للإنسان إرادته، ومشيئته، التي يجدها، ويملك أموره بها، دون أن تعطل إرادة اللّه العامة الشاملة إرادته، أو تكرهه على أمر لا يريده، فإن تعطلت إرادته، أو وقعت تحت سلطان قاهر لها، رفع عنه التكليف.
أو بمعنى آخر زالت عنه في تلك الحال صفة الإنسان، المريد المختار.
وقد عرضنا لبحث هذه القضية، من قبل، في مبحث خاص، تحت عنوان: مشيئة اللّه، ومشيئة الإنسان، عند تفسيرنا لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [111: الأنعام].
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ} هو عرض لمظهر آخر من مظاهر قدرة اللّه وهو أنه سبحانه وتعالى، هو الذي ينشىء هذه السحب الثقال، المحملة بالماء الغزير، ويسيّرها في جوّ السماء، كما يسير السّفن على الماء، وأنه سبحانه يرسل من بين تلك السّحب بروقاً لامعة، هى إشارة سماوية تشير إلى قدرة اللّه سبحانه وتعالى، حيث تنطلق تلك الشرارات النارية الملتهبة، من هذا الماء الذي تحمله السحب..!
وفى قوله تعالى: {خَوْفاً وَطَمَعاً} إشارة إلى أن هذه البروق الراعدة تثير في النفوس مشاعر مختلفة مختلطة.. فيخافها بعض الناس، ويخشى أن تكون صواعق مرسلة بالهلاك، كما يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك {وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ}.
على حين يرجوها بعض الناس، وينتظر الغيث الهاطل من ورائها.
وإلى هذا المعنى ذهب أبو الطيب المتنبّى حين يقول:
فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى *** يرجى الحيا منها وتخشى الصّواعق
قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ}.
المحال: الحول، والطول، والقوة.
والمعنى: أن هذا الرّعد الذي ينطلق من السّحب، مدويّا هذا الدوىّ الذي يملأ الآفاق، هو صوت منطلق في الوجود، بين يدى تلك السحب المحملة بالغيث، ينادى بحمد اللّه، ويهتف بكل موجود أن يصحو من نومه، ويفيق من غفلته، ليستقبل هذه الرحمة المرسلة بحمد اللّه، والشكران له، على ما ساق إلى عباده من نعم! وفى جعل {الرَّعْدُ} مسبّحا بحمد اللّه إشارة إلى أن الرّعد دائما يصحبه المطر، وهذا يعنى أنه يبشر بتلك النعمة، ويزفّ إلى من يسمعون هذا الصوت، أن رحمة اللّه قريب منهم، إذ كان من شأن الرعد أن يتبعه المطر دائما.. وليس كذلك البرق، الذي قد يصحبه مطر، وقد لا يصحبه، وهو الذي يسمّى البرق الخلّب، أي الذي يخدع، حيث يوعد بأن وراءه مطرا، ثم يخلف هذا الوعد.
وليست الإشارة إلى تسبيح الرعد، إلا إلفاتا للإنسان، ودعوة له إلى أن يسبّح ربه ويحمده، وإلّا، فإنّ كل شيء يسبح بحمد اللّه دائما، كما يقول سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
وقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} معطوف على قوله تعالى {الرَّعْدُ} أي يسبح الرعد بحمد اللّه، وتسبّح الملائكة من خيفته، أي من خوف ربّهم، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم: {يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [50: النحل].
قوله تعالى: {وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ}.
الضمير {هم} يراد به المشركون باللّه، الذين لا يرجون رحمة اللّه، ولا يخشون عذابه.
فلا يحمدون اللّه على تلك النعم التي أفاضها عليهم، مع أن هذه النعم ذاتها تسبّح اللّه وتحمده، أن جعلها رسول خير للنّاس، ومصدر حياة لهم.
فكيف لا يحمدها، ولا يشكر للّه من أجلها، من كانت حياتهم معلقة بها، ووجودهم رهن بوجودها؟ أليس ذلك ضلالا وسفها وكفرا؟ وبلى.. إنه الضلال والسفه والكفر! ثم إذا كان الملائكة، وهم ما هم عند اللّه.. يخافون ربّهم، ويسبحون بحمده، ويشكرون له، فكيف بهؤلاء المشركين الضالّين.. لا يخشون اللّه، ولا يخافون بأسه وعقابه؟ لقد غرّهم باللّه الغرور.. إنّهم يجادلون في اللّه، جدال من ينكره، ويجحد نعمه، ويستخفّ ببأسه! وهو سبحانه آخذ بناصيتهم.. إنه ذو الحول والطول، شديد العقاب.. لن يفلتوا منه، ولن يخلصوا من عقابه.
{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}.
فى هذا تسفيه لهؤلاء السفهاء الذين يصرفون وجوههم عن اللّه، فلا يدعونه، ولا يلجئون إليه، وهو الحقّ الذي إذا دعى سمع، وإذا سئل أجاب، وأعطى.. ولكنهم يدعون من دونه من لا يسمع ولا يجيب! {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} [5: الأحقاف].
وفى قوله تعالى: {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ}.
تصوير كاشف لهذا الضلال الذي عليه هؤلاء المشركون، وهم يمدّون أيديهم إلى تلك الدّمى التي عبدوها من دون اللّه، وعلّقوا آمالهم بها، وانتظروا الخير الذي يرجونه منها.. إنهم لن ينالوا شيئا.. إنهم مع آلهتهم تلك كمن يبسط يده إلى الماء، يدعوه إليه أن ينتقل من حيث هو، حتى يبلغ فاه، ويرتوى منه! وهيهات.. فإن الماء لا يسمع له، ولا يستجيب لدعائه.. {وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}.
إنه دعاء لا يجد له أذنا تسمع، أو عقلا يعقل، أو لسانا ينطق! والسؤال هنا:
كيف كانت المعبودات التي يتخذها المشركون آلهة لهم من دون اللّه- مقابلة في هذا التشبيه للماء.. مع أن الماء فيه حياة ونفع لمن يتصل به! ويحسن أورد إليه؟.. فهل في هذه المعبودات شىء، مما في الماء من خير ونفع، حتى يقع الشبه بينها وبين الماء؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- هو أن المنظور إليه في هذا التشبيه، هو العابدون لا المعبودون، وهؤلاء المشركون الضّالون، لا المعبودات التي يعبدونها.. وذلك أنهم في هذا التشبيه ينكشف سفههم وضلالهم، وحماقتهم، وأنهم والماء قريب منهم، والظمأ يشوى أحشاءهم، لا يعرفون- لجهلهم وسفههم كيف ينالون منه حاجتهم، فيبسطون أيديهم إلى الماء، ويهتفون به أن يدنو منهم، ويدخل أفواههم..!
والحاجة- كما يقولون- تفتق الحيلة، وحاجة القوم إلى الماء شديدة، والوصول إليه، والارتواء منه سهل ميسور، يتهدّى إليه الحيوان بفطرته، ولكنّ القوم قد أفسدوا فطرتهم، وعطّلوا عقولهم، فلم يكن لهم ما للحيوان الأعجم من حيلة! ولو كان المشبّه به، المقابل للمعبودات، شيئا غير مرغوب ومطلوب، لما وقف القوم منه هذا الموقف الحريص المتلهف، ولما اشتد بهم الكرب، واستبدّت بهم الحسرة، حين طال وقوفهم عليه، ثم لم ينالوا شيئا منه! ومن جهة أخرى.. فإن من بين هذه المعبودات التي يتخذها المشركون آلهة لهم من دون اللّه، ما فيه نفع وخير، كالملائكة، وبعض الصّالحين، الذين قيل إن ودّا وسواع، ويغوث، ويعوق، كانوا من صالحى العرب، فلما ماتوا صنعوا لهم التماثيل، وأطلقوا عليها أسماءهم، ثم عبدوهم.
فالملائكة، وهؤلاء الصّالحون من عباد اللّه، ممن عبدهم الناس، أو اتخذوهم شفعاء لهم عنده- هم أشبه بهذا الماء، الذي فيه رىّ وحياة، وأنّ من يسلك سبيلهم، ويتأسّى بهم، ويرد موارد التقوى التي وردوها- يجد الرىّ لروحه، والحياة لقلبه.. ولكن المشركين لم يحسنوا التعامل معهم، والانتفاع بهم، فهلكوا، وطريق النجاة دان منهم، ماثل أمام أعينهم! قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}.
هو قهر للمشركين وإذلال لهم، وأنّهم من حيث لا يريدون، ولا يدرون، هم منقادون للّه، خاضعون له، إذ كانوا تحت سلطانه القاهر، وإرادته النافذة.
فهم إذ لم يعبدوا اللّه اختيارا وولاء، عبدوه كرها واضطرارا.. وأنفهم في الرّغام، ومصيرهم إلى النار، لأنهم عصوا اللّه، وكفروا به، وأبوا أن يعطوه ولاءهم مختارين! وليس هذا شأن المشركين وحدهم.. بل إن الوجود كلّه، في سماواته وأرضه، وما في سماواته وأرضه، ساجد للّه، خاضع لعزته وجبروته، منقاد لإرادته ومشيئته.. فالمراد بالسجود هنا، الخضوع والانقياد {طَوْعاً وَكَرْهاً}!.
والوجود كلّه- ما عدا الإنسان- يسجد للّه، ويخضع لإرادته، وينقاد لمشيئته {طوعا} من غير تردد، إذ لم يكن فيها- كما نعلم- كائن ذو إرادة، تضعه أمام أوامر اللّه ونواهيه بين الإقدام والإحجام، وبين الامتثال، والعصيان.. فيطيع وهو مريد، ويعصى وهو مريد.. الأمر الذي ليس لكائن غير الإنسان.. وفى هذا يقول تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} [11: فصلت].
أما الإنسان، فهو الكائن المريد، الذي تقوم في كيانه قوة موجهة، هى التي تذهب به يمينا أو شمالا، وتقيمه على أمر اللّه، أو تخرج به عنه.. فإذا استجاب لأمر اللّه، واتبع سبيله كان نغما متجاوبا مع هذا الوجود المنقاد للّه طوعا وإذا لم يستجب للّه، وخرج عن طريق الحق الذي دعاه إليه، كان نغما شاذا، ثم كان في الوقت نفسه منقادا للّه {كرها}.
لأنه واقع تحت سلطان اللّه، منقاد لمشيئته.. فما على هذا الإنسان الجهول لو انقاد للّه طوعا، كما هو منقاد كرها؟
وفى قوله تعالى: {وَظِلالُهُمْ} إشارة إلى أن ظلال هذه الكائنات،- ومنها الإنسان- منقادة للّه سبحانه وتعالى، ساجدة لجلاله وعظمته.. فحيثما وقعت أشعة الشمس على كائن من الكائنات، وقع ظلّه على الأرض.. فكان ذلك منه سجودا للّه، وولاء له.. إنه لا يملك الظل إلا أن يقع على الأرض.
وقوله تعالى: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}.
الغدوّ: جمع غدو، مؤنثه غدوة.. وأصله غدوو.. على وزن فعول فأدغمت الواو في الواو.. والغدو، والغدوة، أول النهار.
والآصال: جمع أصل، والأصل: جميع أصيل.. مثل نذير ونذر.. والأصيل آخر النهار.
وفى قصر سجود الظلال على الغدو والآصال، عرض واضح لسجود هذه الظلال، حيث تكون ظلال الأشياء في أول النهار وآخره ظاهرة ممتدة، يبدو فيها ظل الشيء أضعاف أصله، ثم ينكمش رويدا رويدا، حتى يقع تحت قدميه عند الزوال، ثم يبدأ في الطول شيئا فشيئا، حتى يعود كما بدأ أول النهار، في طوله وامتداده، أضعافا مضاعفة. إنها دورة كاملة للظل على الأرض، أشبه بدورة الأفلاك في مداراتها.
وأقرب شيء إلى الإنسان، وألصق الأشباه به، هو ظلّه.. وهذا الظلّ يسجد للّه.. فإذا كان الإنسان مؤمنا سجد، وسجد معه ظله.. وإذا كان كافرا يأبى السجود للّه، فإنه ساجد للّه- كرها- بظله هذا الذي يسجد للّه غدوة وأصيلا، وما بين الغدوة والأصيل.. فهل يستطيع أن يحول بين ظله وبين أن يسجد للّه؟ فليجرب إذن.. وسيجد أنه كما لا يملك أن يمنع ظله من السجود للّه، والانقياد للّه، فإنه لا يملك نفسه من الانقياد للّه، والخضوع لسلطانه القائم عليه، في كل حركة يتحركها، أو نفس يتنفسه.. وليجرّب مرة أخرى إن كان يستطيع الخروج عن سلطان اللّه! وهل يستطيع مثلا أن يعيد نفسه إلى الشباب إن كان شيخا؟ وهل يستطيع أن يدفع عن نفسه عادية الجوع إذا امتنع عن الطعام يوما أو أياما؟ وهل يستطيع أن يغلب النوم فلا ينام أبدا؟ ثم أيستطيع أن يفرّ من الموت الذي هو ملاقيه يوما؟ أليست هذه، وآلاف غيرها من الضرورات القاهرة التي تتحكم في الإنسان، وتأخذه من مقوده- أليست من مظاهر الخضوع للّه، طوعا وكرها؟ وبلى! وإن اللّه سبحانه وتعالى ليقول:
{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ} [33: الرحمن].

1 | 2 | 3